محمد حسنين هيكل.. سيرة “الأستاذ الكاهن” بين الأسطورة والجدل
في مقال منشور للكاتب الصحفي محمد عبد العزيز يروي عبره حكايات عن الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل، تحت عنوان هيكل.. حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن، قال عبد العزيز إن علاقته مع كتابات الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل معقدة، قد تأخذ موقفًا مما يكتبه وتتهمه بكثير، ابتداءً من التحايل على المعلومة وتعديل تفسيرها، إلى عدم إيمانه بالديمقراطية.. لكني أعود إليه كمصدر وشاهد عيان في قضايا تاريخية كثيرة، والأهمّ كواحد من أجمل الأقلام الصحفية في تاريخ الكتابة العربية الحديثة، فهيكل أديب ضلّ طريقه إلى الصحافة.
أغضب من مواقف هيكل، وأنفر من دوره السياسي في العهد الناصري، وفي المقابل أعجب بقلمه الصحفي الماهر، وتشريحه للأوضاع السياسية العالمية. وكتابة هيكل من النوع الفاخر؛ فهو قلم سيّال، وعقل تحليلي، ويمتلك براعة في الاستشهاد التاريخي.. سبحان من خلق الإنسان!
ليس في معجم هيكل حديث عن الشعوب وحقوق الإنسان، ولا ترى مفردات الحرية وكرامة الناس في كتاباته، ينشغل هيكل بالسلطة ورجالها، وتفاصيل حياة الأبطال العظام الذين يديرون دفة الأمور، مثل تشرشل وديغول وكيسنجر. ينتمي إلى مدرسة تبحث أثر البطولة في التاريخ، ويركز على البنية الفوقية للمجتمعات، ولا ينظر إلى التاريخ من أسفل، ولا نرى أي مواقف يصطفّ فيها مع زيادة الحريات إلا فيما يتعلق بالإفراج عن بعض المثقفين، أو حماية بعض الأدباء من السجن، مثلما فعل مع نجيب محفوظ. بل إن هيكل يتبنى مفهومًا للحريات متعلقًا بالحفاظ على سلطة عاقلة رشيدة لا تخسر كل الأنصار، وتحرص على تزيين الدولة بالمثقفين في الطابق الخامس من صحيفة الأهرام. فهو يرفع سقف التعبير بشكل لا يمثل ضغطًا على النظام القائم.
بدايات هيكل الصحفية
من قصص بدايات هيكل، أنه كان أحد الجالسين أمام سكوت واطسون في محاضرة عن عناصر الخبر، وإذا بواطسون يتطرق إلى ذكرياته أيام كان مراسلًا في الحرب الأهلية الإسبانية، وكانوا يستمعون إليه في انبهار وشبه خشوع، فقد طاف بهم في ما يشبه الملحمة، بين تضاريس ومعالم تلك الحرب، التي انقسمت أوروبا بسببها بين الفاشية والديمقراطية. وحين ختم محاضرته كانت دعوته لمن يريد من المستمعين أن يتدرب عمليًّا أن يلقاه في اليوم التالي، في مكتبه في جريدة “الإيجيبشيان غازيت”.
وبعد فترة تدريب لهيكل في “الإيجيبشيان غازيت”، قضاها في قسم الحوادث، وغطَّى معارك العلمين التي وقعت على أرض مصر بين دول المحور والحلفاء في أثناء الحرب العالمية الثانية، وبرزت موهبته وقدراته، التقطه محمد التابعي ليعمل معه في المجلة التي كان يملكها.. مجلة “آخر ساعة”.
وفي كتاب شهدي عطية “حدث في شارع الصحافة: أوراق ومعارك” قصة طريفة عن واحد من أوائل تحقيقات هيكل، وهو في صحيفة “الإيجيبشيان غازيت”، حيث طُلب منه كتابة مقال بعد قرار إلغاء البغاء في مصر، وطلبت الجريدة الحصول على رأي مئة سيدة تعمل في هذا المجال، وتأثير القرار فيهن. وذهب هيكل إلى «المعلمة»، فقالت له: شكلك ابن ناس. ردّ قائلًا: ابن ناس جدًّا.
ولم يكن الانتقال إلى “آخر ساعة” سهلًا، ففي حين أن رئيسه الأول هارولد إيرل رأى أن الجريمة والحرب هما مجال التكوين الأصلح والأمثل للصحفي، فإن رئيس هيكل الثاني — محمد التابعي — كان يرى أن المسرح والبرلمان هما المجال الأنسب والأوفق للصحفي. ولبضعة أسابيع وجد هيكل نفسه في كواليس مسارح القاهرة بدلًا من ميادين القتال، ثم وجد نفسه في شرفة مجلس النواب بدلًا من محافظة القاهرة التي تصب فيها أخبار كل جريمة تحدث في مصر. وكانت تلك الفترة — مهنيًّا — فترة العثور على توازن معقول لهيكل بين ثلاثة تأثيرات واضحة: عقلانية هارولد إيرل، ورومانسية سكوت واطسون، ثم حلاوة أسلوب محمد التابعي.
هيكل ومحمد التابعي
سافر الصحفي محمد التابعي إلى تركيا لقضاء إجازة، وأرسل إلى نائبه هيكل في “آخر ساعة” تلغرافًا: “إذا كان المجمع اللغوي قد انتهز عدم وجودي في مصر، وأصدر تعليماته بتغيير قواعد اللغة العربية، فلا مانع مما نشرته في صفحة (كذا)، في السطر الفلاني، لتقوم بتنصيب الفاعل ورفع المفعول به!”.
وعلى ذكر التابعي، يقول محمد حسنين هيكل في تقديمه لأحد كتب التابعي: “كل نجم طالع في أي مجال يريد نسبًا موصولًا بالشمس، يستكبر أن يكون ابنًا شرعيًا لأب، وإنما يطلب أن يكون مولودًا بذاته ولذاته بداية ونهاية”. قالها هيكل معلقًا على ظلم الصحفيين لمحمد التابعي، وإنكار أستاذيته وريادته في مجال الصحافة.
ومن كتاب شهدي عطية نعرف أن أول ظهور لاسم هيكل كان تحت توقيع “الأديب لا الصحفي”، ويروي لنا شهدي عن أول «قرصة أذن» من التابعي لهيكل عام 1944؛ فقد أخطأ أحد المترجمين في موضوع عن نجمة السينما الأمريكية جيل باتريك واعتبرها رجلًا، وفي يوم صدور العدد ذهب هيكل إلى مكتبه في “آخر ساعة” وهو سعيد، ليجد خطابًا على المكتب، فظنّ أنه خطاب شكر من الأستاذ التابعي بمناسبة صدور هذا العدد الممتاز، فإذا بالخطاب يقول: “عزيزي هيكل… هذه أول مرة — فيما أعلم — تتحول فيها امرأة إلى رجل بسنّ قلم، وكنت أظنها تحتاج إلى سنّ جراح”. ودخل هيكل ليتفاهم مع التابعي، ولكنه رفض أن يعطيه فرصة للردّ؛ فقد كان يعتقد أنه أبدى رأيه في الموضوع وانتهى الأمر.
ويتميز كتاب شهدي عطية بتغطيته لفترة البدايات في حياة هيكل، مثل تحقيقه في سجن الرجال، ومثله في سجن النساء، وتحقيق عن الغجر، وهي نواة أرجو أن يحوِّلها الكاتب شهدي عطية إلى سيرة مطوَّلة لمسيرة هيكل في الصحافة.
هنا أتذكَّر شهادة الصحفي سمير عطا الله عن التابعي وجيله: “كعامل في مهنة الصحافة، لا أزال أقرأ محمد التابعي مثل تلميذ مبتدئ، وما زلت أبحث عن سر البريق عند مصطفى وعلي أمين، وكنت أتمتع بقراءة فتحي غانم مهما كتب، وأشعر بالبركة وأنا أقرأ أحمد بهاء الدين، ولا يمكن أن يمر يوم دون أن أقرأ أنيس منصور… لولا الكتب التي تركها هؤلاء السادة لما بقي شيء من افتتاحياتهم وأعمدتهم”.
ويحكي رشاد كامل في كتابه “الصحافة والثورة.. ذكريات ومذكرات”، نقلًا عن موسى صبري، أنه في بداية التحاق هيكل بأخبار اليوم أُوفد إلى سوريا لتغطية مؤتمر بلودان، الذي حضره عدد من الزعماء العرب. وأخذ هيكل يرسل بتحقيقاته من هناك على أنها أحاديث مع هؤلاء الزعماء، واتضح بعدها أنها قيلت في الجلسة الافتتاحية، ولم يخصّ أحد بها هيكل! بعد عودة هيكل إلى مصر أصر مصطفى أمين على فصله. توسط كامل الشناوي وقال بطريقته الساخرة: “هيكل شاب، ومعذور… بيدخل مكتبك يلاقي عندك رئيس الوزراء! يروح لعلي أمين يلاقي مكرم عبيد باشا… بييجي عندي يلاقي النقراشي باشا… فهو نفسه يبقى حاجة كبيرة، ومعلش بقى!”
هيكل قبل ثورة يوليو
ومن كتب هيكل قبل ثورة يوليو كتاب “إيران فوق بركان” الصادر في مايو 1951، وطلب الرئيس جمال عبد الناصر نسخة منه. وقال هيكل في الكتاب عن شاه إيران: “إن عرش جلالته يتأرجح، وتاجه يهتز، ولا يكاد يستقرّ فوق رأسه، وملكه الواسع تمزِّقه المؤامرات والفتن”. واعتبرت النيابة هذه العبارات “عيبًا في حق إمبراطور إيران”، لكن القضية انتهت ببراءته.
وتوقفتُ عند براعة وصف هيكل لحياة الملك فاروق الشخصية: “والحاصل أن «فاروق» كان مصابًا في حياته العائلية بنوع من النحس؛ فقد كان متعلقًا بأمه الجميلة، متباعدًا عن أبيه القاسي، ثم اكتشف أن اليشمك الأبيض الرقيق الذي تضعه الملكة نازلي حجابًا على شفتيها — طبقًا للتقاليد العثمانية — لم يحجب شيئًا! ثم أولع الملك الشابّ غرامًا بزوجته الأولى فريدة، ثم اكتشف أن المسحة الملائكية التي تكسو تقاطيع وجهها لم تكن إلى هذا الحد ملائكية”… ما أبرع قدرة هيكل على المزج بين الأدب والحكاية الصحفية.
هيكل وعبد الناصر
لم يُرِد هيكل في الحقيقة صحيفة مستقلة، بل أراد — كما حدث بالفعل — أن يكون المستشار الأول للرئيس، وصانع السياسات الأهمّ في الخفاء، وأن تخدم الصحيفة المشروع السياسي الطَّموح لهذا الزعيم.
وكان يسافر مع عبد الناصر في جميع رحلاته، فلا يجلس مع الصحفيين، بل يكون معه في كابينته الخاصة بالطائرة، ثم يجلس معه ومع رجال الدولة إلى طاولة المفاوضات. واشتهر بثقافته السياسية وأسلوبه الفريد، لذلك كان هو الذي حرَّر وثائق الثورة، وكتب خطب عبد الناصر.
وكان هيكل الوحيد الذي ينادي باعة الصحف على اسمه يوم الجمعة قبل “الأهرام”، فتسمع في صياحهم: “اقرأ هيكل، اقرأ هيكل”. وكانت مقالة “بصراحة” تنزل يوم الجمعة، وكان الناس ينتظرونها. وظهر ذلك حين أعطى هيكل لنفسه إجازة لمدة شهر كامل في أغسطس، فهبط توزيع “الأهرام” أيام الجمعة كثيرًا.
وسأل رجب البنا هيكل: هل تلخص لي في عبارة واحدة سر نجاحك؟ فأجابه: “إن كل وقتي أقضيه إما في القراءة، وإما في المقابلات الهامة، والمناقشات المثيرة”.
ويحكي محمد كريشان في مذكراته “وإليكم التفاصيل” قصة رواها له هيكل: أنه صادف أن أقرض الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة مبلغًا بسيطًا من المال، وتشاء المصادفات ألا يراه بعد ذلك إلا بعد أن أصبح رئيسًا لتونس. لكن بورقيبة لم ينسَ ذلك المبلغ، لذلك بادر هيكل ضاحكًا حين التقاه: “اسمع يا هيكل.. انسَ ذلك المبلغ، فلن أعيده إليك!”
وفي كتاب “أحاديث برقاش” يحكي عبد الله السناوي عن لقاء هيكل مع الملك سلمان بن عبد العزيز في سردينيا قبل توليه الحكم، ويذكر أن هيكل حين رآه قال له: “الاختلاف في الرأي لا يفسد للودِّ قضية”، فردّ الملك بلهجة مصرية: “هتقول إيه ولا إيه؟” — فقد سبق أن كتب هيكل هجومًا على السعودية في كتاب بعنوان “كتاب يا صاحب الجلالة”.
وعلاقة محمد حسنين هيكل بعبد الناصر كانت علاقة خاصة للغاية. ومع ذلك لم يتولَّ هيكل مناصب سياسية إلا عرضًا وبشكل سريع، فقد عُيّن وزيرًا للخارجية لمدة أسبوعين فقط عام 1970، وهي مهمة لم تعجبه. وقد روى هيكل لكريشان كيف أن عبد الناصر استغرب من هذا “التعفف”، فسأله مستنكرًا: “أوليس لديك طموح؟!”، فأجابه هيكل: “بلى، طموحي يعانق عنان السماء… ولكن في مهنتي: الصحافة”.






